الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

د. لؤي زعول نصوص نفسية (الكندي)

جامعة الخليل
         د. لؤي زعول                                  نصوص نفسية عند علماء المسلمين
(دكتوراه بعلم النفس الاجتماعي والعملي)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملخص محاضرات رقم ( 2 )
الكنــدي (شهرته و ميلاده):                                                            
·        هو أبو يوسف بن اسحق الكندي، ويرجع لقبه إلى انتسابه إلى قبيلة كندة  ببلاد اليمن.
·        كان أجداده ملوكا على كندة.
·        أبوه اسحق بن الصباح أميرا على الكوفة في زمن المهدي والرشيد.
·        ولد الكندي في الكوفة
·        تاريخ ميلاده غير معروف على وجه الدقة.
·        على الأرجح ولد في 185هـ ( 801م).
حياته ووفاته:
·        قضى الكندي طفولته في الكوفة وتلقى علومه فيها .
·        انتقل إلى بغداد ودرس الأدب وعلوم الفلسفة.
·        نبغ في علوم الفلسفة وألف فيها الكثير من الكتب والرسائل.
·        كان من المناصرين لحركة ترجمة الكتب اليونانية إلى اللغة العربية.
·        كان يقوم بتهذيب بعض الترجمات التي كان يقوم بها المترجمون.
·        كان أول عربي مسلم اشتغل بالفلسفة وأتقن علومها ولذلك سمي بفيلسوف العرب.
·        قال المؤرخ الإسلامي القفطي عنه أنه فيلسوف العرب، كما قال ابن نباتة في شرحه لرسالة ابن زيدون إنه فيلسوف الإسلام.
·        عمل طبيبا ومنجماً للخليفة في عهد المأمون والمعتصم والواثق الذين كانوا يؤيدون مذهب الاعتزال ( المعتزلة: هي فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها)، وكان له علاقة حسنة بقصر الخلافة.
·        فقد مكانته في قصر الخلافة حينما عادت الخلافة إلى مذهب أهل السنة في عهد الخليفة المتوكل.
·        عاش الكندي بعد ذلك في بغداد بعيدا عن الأضواء ومنعزلا عن الناس بقية حياته.
·        اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ وفاته ويرجح أنه مات في أواخر سنـة (252هـ) (866م).

 مؤلفاته:                                                                              
·     ترك الكندي مؤلفات كثيرة، معظمها رسائل صغيرة وقد فُقد منها الكثير ولم يبق منها إلا القليل المبعثر بين مكتبات العالم.
·     كان الكندي شديد الذكاء واسع الإطلاع وكان موسوعياً في تأليفه، وألف الكثير من أنواع المعارف التي كانت سائدة في عصره.
·     يذكر ابن النذير المؤرخ الإسلامي وكذلك القفطي انه له (238) رسالة وهي مؤلفات صغيرة لا تتجاوز عشر ورقات.
·     تأثر الكندي في أرائه في النفس بآراء أرسطو وأفلاطون وأفلوطين المعروف بالشيخ اليوناني في المصادر العربية وهو صاحب كتاب الربوبية والمدافع الأبرز عن الأفلاطونية.
·     كان الكندي يقدر أرسطو بشدة واهتم كثيرا بتلخيص آرائه.
·     خالف أرسطو في  كثير من المسائل الفلسفية وكان أكثر ميلا لأفلاطون وأفلوطين.
·     على الرغم من تأثره بالفلسفة اليونانية التي تتسم في عمومها بالفكر الإلحادي والأفلاطونية الحديثة إلا انه بقى أمينا على الشريعة الإسلامية، مثال على ذلك انه قال "أن الحقيقة المنزلة تفوق الحكمة الإنسانية مرتبة، كما قال ان الأنبياء الذي ينطقون باسم الله والذين هم حملة العلم الإلهي يفوقون سائر البشر".
·     حاول الكندي إظهار أوجه التقارب بين الفلسفة والدين الإسلامي، وإبعاد شقة الخلاف بينهم، باعتبار أن غاية الفلسفة والدين واحدة وهي: معرفة الحقيقة التي تتعلق بالظواهر الكونية والإنسانية على الرغم من انهما ينهجان في تحقيق ذلك منهجين مختلفين.

تعريف النفس: 25ص
·        عرف النفس بأنها: تمامية جرم (الجسم) طبيعي ذي آله قابل للحياة ( أي له أعضاء حركية يقضي بها احتياجاته ويسعى بها) أو هي: استكمال لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة والفطرة.
·        وهذان التعريفان هما في الحقيقة تعريف واحد فالتمامية تعني استكمال او كمال، وقابل للحياة أي ذي حياة بالقوة.
·        تعريف للكندي للنفس مأخوذ من أرسطو.
·        قوله إن النفس هي تمامية أو استكمال يعني: أن بها يكمل الجنس البشري فيصبح نوعا يميزه عن سائر المخلوقات الأخرى. (أي ان بها يكمل الجرم الطبيعي فيصبح إنسانا) ويعني بجرم طبيعي هو: جسم طبيعي هبة من الخالق عز وجل وليس صناعي.
·        ومعني (ذي آلة) أنه يقوم بأفعاله بواسطة آلات هي أعضاء الإنسان المختلفة.
·        ويعني ( قابل للحياة ) و(ذي حياة بالقوة ) أن فيه استعداد للحياة.
·        بجانب التعريف الأرسطي كان للكندي تعريف آخر للنفس يبدو من خلاله تأثره بأفلاطون وأفلوطين فهو يعرفها بأنها "بسيطة ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر الباري عز وجل مثل ضياء الشمس من الشمس" (أي مرتبطة بخالقها كما يرتبط الضياء من الشمس) والنفس التي يعرفها الكندي هي النفس الناطقة.
·        يقول عنها أيضا أن جوهرها جوهر إلهي رباني هي من نور الباري عز وجل (إنها من جوهر بسيط غير فان، هبط من عالم العقل (الغيب) إلى عالم الحس (الشهادة) ولكنها مزودة بذكرى (تتمتع بالذاكرة) حياتها السابقة وهي لا تطمئن في هذا العالم، لأن لها حاجات ومطالب يحول دون إرضائها الحوائل فيكون ذلك مصحوبا بالآلام، والنفس باقية بعد الموت وهي تنتقل بعد الموت إلى عالم الحق الذي فيه نور الباري عز وجل وهو مستقرها الأبدي، وتصبح فيه قريبة الشبة من الباري عز وجل ويصبح في قدرتها أن تعلم سائر الأشياء، وتعلم كل ظاهر وخفي وتقف على كل سر وعلانية ويستشهد الكندي في ذلك بالآية الكريمة " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد".

قوى النفس:                                                                  
·        نلاحظ في كلام الكندي خلطا عن قوى النفس بين رأي أفلاطون وأرسطو دون تمييز أرائهما.
·        أفلاطون ذهب إلى خلود النفس بعد فناء البدن وقسمها الى ثلاث قوى:
-        الشهوانية.
-        الغضبية.
-        العاقلة.
·        أما أرسطو اعتبرها صورة الجسم وتفنى بفناء البدن، وقسمها الى:
-        النفس النباتية ووظيفتها التغذي والنمو والتوليد ( الانجاب).
-        النفس الحيوانية ووظيفتها الحس والتخيل والحركة بالإضافة إلى وظائف النفس النباتية.
-        النفس العاقلة وهي تختص بالإنسان دون غيره من الكائنات.
·        أما الكندي يتبنى تقسيم أفلاطون الثلاثي للنفس ( شهوانية، غضبية، عاقلة ).
وأحيانا أخرى يجمع الكندي بين رأيي أفلاطون وأرسطو فيقول للنفس قوتين متباعدتين (الحسية والعقلية) وإن لها قوى أخرى متوسطة بين الحس والعقل هما: المصوِرة والغاذية والنامية والغضبية والشهوانية.



شرح القوى عند الكندي: 27ص

1-  القوة الحاسة: وتدرك صور المحسوسات الخارجية المتعلقة بمادتها وآلات هذه القوى هي أعضاء الحس الخارجية الخمسة.
2- القوى المتوسطة: وهي تتألف من عدد من القوى:
أ‌-     القوة المصوِرة: (أي المتخيلة) وهي التي تدرك صور المحسوسات مجردة عن مادتها (مثل الصور الفوتوغرافية التي هي مجردة من جسم الإنسان ولحمه ودمه)، وتسترجعها في غيبة محسوساتها الخارجية (يستطيع الإنسان أن يصفها في حال غيابها). وتستطيع هذه القوة أن تركب صور المحسوسات بعضها إلى بعض سواء في اليقظة او في المنام أثناء الأحلام (كأن تُكوِن مثلاً حصان له أجنحة أو إنسان له ريش أو حيوان يتكلم).
ب‌-القوة الحافظة: وهي القوة التي تحفظ صور المحسوسات التي تصلها من القوة المصورة.
ت‌-القوة الغضبية: وهي القوة التي يستخدمها الإنسان في دفع ما يؤذيه ويدافع بها عن نفسه.
ث‌-القوة الشهوانية: وهي القوة تدفع الإنسان إلى نيل ما يشتهيه، ويسعى من خلالها إلى إدراك المتعة واللذة.
ج‌-  القوة الغاذية: وهي القوة التي يتم بها تحصيل الغذاء وتمثيله من خلال تحويله الى طاقة في الجسم.
ح‌-  القوة المنمية (النامية): وهي القوة التي تقوم بوظيفة النمو.

 ويذهب الكندي على ان مركز هذه القوة النفسانية في الدماغ (المخ) خلافا لما ذهب إليه أرسطو الذي جعل مركز هذه القوى في القلب.

3-   القوة العاقلة:
وهي القوة التي تدرك المعقولات المجردة وهي:
العقل:                                                                           
·        القوة العاقلة تدرك الصور المعقولة المجردة من المادة، أي تدرك الكليات ( التعميمات) مثل: الأنواع او الأجناس.
·        وتناول الكندي موضوع العقل ومراحل عملية الإدراك العقلي في رسالته المشهورة في العقل والتي لخص فيها آراء أفلاطون وأفلوطين وأرسطو.
·        وقد اختلف كلام الكندي في العقل عن كلام ارسطو فقد ذهب أرسطو إلى ثلاثة انواع للعقل بينما نرى ان الكندي تحدث عن اربعة أنواع فقد أضاف عقلا رابعا وهو العقل الظاهر، ويبدو أنه من ابتكار الكندي.

يميز الكندي بين اربعة وجوه للعقل وهي:                                             
1-  العقل الذي هو خالق الفعل دائما وسبب جميع العقول والمعقولات: وقد اختلف المؤرخون في تعريفه فبعضهم من قال انه عقل مفارق للنفس وهو الله تعالى أو العقل الأول المخلوق  وقال بعضهم انه في النفس وليس مفارقا وهو ليس سوى الكليات في النفس.
2-  العقل بالقوة: هو عبارة عن الاستعداد الموجود في الإنسان ( بالفطرة ) لإدراك المعقولات.
3-  العقل الذي خرج في النفس من القوة إلى الفعل: فعندما تدرك النفس المعقولات المجردة والكليات، فإنها تتحد بها وتصبح المعقولات والعقل شيئا واحدا وعند ذلك يتحول العقل من القوة إلى الفعل.
4-  العقل الظاهر: فإذا كان العقل مستغرقا في إدراك المعقولات او يقوم بأدائه من خلال سلوكياته وافعاله التي تتسم بالتعقل إلى الغير، فإنه يسمى حينئذ العقل الظاهر، بمعنى انه يصبح ظاهرا بذاته من جهة وظاهرا للملأ من جهة اخرى.

نظرية المعرفة:                                                                      
·        يذهب الكندي على ان المعرفة على نوعين: (حسية وعقلية) فالمعرفة الحسية: تقف عند ظواهر الأشياء فقط ولا تتعداها وتوجد لدى كل من الانسان والحيوان، أما المعرفة العقلية: فتنفذ على جواهر الأشياء وهي خاصة بالانسان وحده.
·        يرى الكندي أن انشغال الانسان بالأمور الشهوانية والغضبية والتمتع بملذات الحياة الدنيوية، يعوق النفس عن الوصول إلى المعرفة الحقيقة، حيث يقول الكندي عن النفس الناطقة " جوهرها كجوهر الباري عز وجل في قوتها / إذا تجردت / أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم الباري بها او دون ذلك برتبه يسيرة، أنها أودعت من نور الباري عز وجل.
·        يرى الكندي ان التجرد من الشهوات والملذات الدنيوية ليس بهدف الحصول على المعرفة الحقيقة بل النظر أيضا في حقائق الأشياء والبحث فيها.
·        فالمعرفة بحقائق الأشياء بوجهة نظر الكندي لا تكتسب عن طريق الحواس، وانما تأتي عن طريق الفيض من الله سبحانه وتعالى، والسبيل إلى ذلك تطهير النفس من شوائب الحياة المادية ودنس الشهوات الدنيوية والانشغال بالنظر في حقائق الأشياء حتى تصبح مهيئة لاستقبال المعرفة من الباري عز وجل.

النوم والرؤيا:                                                                         
أ - النوم:
·      يتناول الكندي موضوع النوم والرؤيا في رسالته الهامة " في ماهية النوم والرؤيا".
·      يعرف النوم بانه " ترك استعمال النفس للحواس جميعا " فإذا لم ننظر ولم نسمع ولم نذق ولم نشم ولم نلمس بدون مرض عارض ونحن على طباعنا فنحن نيام".
·      إذا امتنع الإنسان عن استخدام حواسه والحركة واظلم المكان الذي حوله وأبعد عنه الأصوات ينتهي به الأمر إلى ان ينام.
·      أن النوم عند الكندي عبارة عن تفكير عميق لا تستخدم النفس فيه الحواس الخارجية.
·      النفس عند الكندي لا تنام البتة إنما هي علامة يقظة.
·      النوم لدى الكندي له فوائد كثيرة للإنسان والحيوان، فإنه يؤدي على سكون الأعضاء عن الحركة، وتفريغ لعمليات الهضم الآلة الهاضمة للهضم، وإفادة البدن بالغذاء خلفاً من كل ما سال وتحلل منه بالتعب.

ب-  الرؤيا:
·        يعرف الكندي الرؤيا بأنها" استعمال النفس الفكر، ورفع استعمال الحواس عنها".
·        يرجع الكندي الرؤيا إلى القوة المصورة أو قوة التخيل وهي القوة التي تدرك صور المحسوسات مجردة عن مادتها وهي تؤدي عملها في حالة النوم واليقظة معا.
·        فكل ما يقع عليه الفكر في حالة اليقظة تنطبع صورته في القوة المصورة، وبقدر استغراق الإنسان في الفكر وتركه للحواس، تكون تلك الصور أظهر حتى كأنه يشاهدها بحسه.
·        إذا استغرق الإنسان في نومه وتوقف استعماله للحواس فكل ما يقع عليه الفكر أثناء النوم، فإن صورته تنطبع في القوة المصورة، وتكون هذه الصورة الحسية أظهر فعلاً وأقوى منها في اليقظة، وتنشأ عنها الرؤى والأحلام.


 أنواع الرؤيا:                                                                  
يذكر الكندي أربع أنواع من الرؤى ويفسر أسباب حدوث كل منها:
·    الرؤية التنبئية: وهي التي يُرى فيها الإنسان أشياء قبل حدوثها.
·    الرؤية الرمزية: وهي التي يُرى فيها الإنسان أشياء تدل على أشياء أخرى أي ترمز لأشياء أخرى.
·    الرؤية التي تدل الأشياء فيها على أضدادها: وهي التي يُرى فيها الإنسان أشياء تدل على أشياء أخرى أي ترمز لأشياء أخرى.
·    الرؤية التي لا يصدق شئ مما يراه النائم فيها: وهي التي يُرى فيها الإنسان خزعبلات وخرافات وأضغاث أحلام من خلال سلوكياته وأفعاله التي تتسم بالتعقل.

تفسير الرؤى عند الكندي:                                   
·        يرجع الكندي اختلاف أنواع الرؤى إلى اختلاف تهيؤ القوة المصورة لقبول الصور الحسية التي تمثل معارف النفس، فالنفس علامة يقظة حية (أي تعلم كل الحقائق عن ما يحدث لها في المستقبل) وان جميع الأشياء الحسية والعقلية موجودة فيها.
·        يقول الكندي إذا كانت القوة المصورة تامة التهيؤ لقبول تلك المعارف الموجودة في النفس فإن الرؤيا تكون معبرة عن الأشياء قبل وقوعها.
·        اما إذا كانت النفس اقل تقبلا لقبول الصور الحسية التي تمثل معارف النفس فإن النفس عندئذ تحتال بان تنبئ عن الشئ برمزه، فتنبئ عن السفر على سبيل المثال بانتقال الإنسان على أية وسيلة من وسائل السفر.
·        اما إذا كانت القوة المصورة أضعف من ان تقبل الرمز الصادق مثل الرمز المذكور سابقا وهو (ركب في منامه احد وسائل السفر)  
·        كانت الرؤيا تدل على شئ ضد ما يرى النائم فقد يرى فردا ما قد مات وهو طويل العمر.
·        أما إذا كانت القوة المصورة لا تقبل اي شئ مما تقدم، كانت الرؤيا غير منظمة وخليط غامض وهي التي تسمى أضغاث أحلام، وهي الرؤيا التي لا يصدق أشياء منها.

 علاج الحزن:                                                                   
·        للكندي رسالة  بعنوان " في الحيلة لدفع الأحزان" تحدث فيها عن علاج الحزن يعرف الحزن فيها ويوضح أسبابه، ويذكر بها بعض الأساليب للتغلب عليه.
·        يعرف الكندي الحزن بأنه " الم نفساني يعرض لفقد المحبوبات والمطلوبات" فالإنسان الذي يجعل مطلوباته ومحبوباته من الأشياء الحسية الموجودة في العالم الحس(الدنيا)، فأنه يكون عرضه للشعور بالألم والحزن لأن المحبوبات والمطلوبات الحسية عرضة للفساد والزوال.
·        أما المحبوبات والمطلوبات العقلية التي تتعلق بالغيب والآخرة فدائمة وثابتة، فهي لا تفسد ولا تفوت، ولذا يرى الكندي إذا اراد الانسان ان يكون سعيدا وان يقي نفسه آلام الحزن، فعليه ان يجعل محبوباته ومطلوباته من العالم العقلي.
·        يقول الكندي "ان الانسان دائما معرض لفقد المحبوب وفوت المطلوب، فإذا حزن لذلك فإنه سوف يكون دائم الحزن " فينبغي إذن ألا نحزن على الفائتات، ولا فقد المحبوبات وأن نجعل انفسنا بالعادة الجميلة راضية بكل حال لنكون مسرورين أبدا ".
·        كما ويرى الكندي انه من الواجب علينا ان نهتم بدفع هذه الألام النفسانية عنا مثلما نهتم بدفع الألام الجسمانية، حيث يقول الكندي " فإصلاح النفس وشفاؤها من أسقامها اوجب كثيرا علينا من إصلاح أجسامنا، فأننا بأنفسنا نحن، ما نحن لا بأجسامنا،،، وأجسامنا آلات لنفسنا تطهر بها أفعالها فإصلاح ذواتنا اولى كثير من إصلاح آلاتنا".
·        وينصح الكندي ان يتم إصلاح النفس وعلاجها من آلام النفس على التدريج، بأن نلزم أنفسنا بالقيام بالعادة المحمودة في الأمور السهلة أولا، ثم نتدرج بها على الالتزام بالعادة المحمودة في الأمور الصعبة، ثم يستمر هذا التدريج بعد ذلك في الأمور التي هي غاية في الصعوبة.
·        يسبق الكندي في هذا الرأي علماء النفس المحدثين في القول بمبدأ هام من مبادئ التعلم وهو مبدأ التدرج في تعلم العادات الصعبة، وقد استخدم هذا الأسلوب بعض المعالجين النفسين المحدثين في التخلص من بعض الاضطرابات والعادات السيئة وفي علاج القلق أيضا.


 أساليب الكندي في التخلص من الحزن: 
يذكر الكندي بعض الأساليب في التخلص من الحزن وهي ان نفكر في الحزن ونقسمه على نوعين وهي:
1-  انه يحدث نتيجة فعل ما نقوم به، وعلاجه يمكن عبر التخلص منه بتجنب القيام بهذا الفعل.
2-  يحدث نتيجة فعل يقوم به غيرنا، فينبغي علينا الا نحزن قبل حدوث هذا الفعل فإذا وقع هذا الحزن وأدى الى حزننا فمن الواجب أن نجتهد في الحيلة للتلطف وتقصير مدة الحزن، فإننا ان قصرنا في حزننا، كنا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه.

ومن الأساليب الأخرى التي يقول بها الكندي لدفع الحزن ان نتذكر الامور التي سببت لنا الحزن ولغيرنا في الماضي وما آلت إليه من السلوى ( أي إدراك الحكمة الإلهية والتسليم بها)، فإن ذلك يمدنا بقوة عظيمة على السلوى عما يحزننا في الوقت الحاضر.

الكندي رائدا للعلاج النفساني السلوكي:
·        من الملاحظ ان الأساليب التي اتبعها الكندي في علاج الحزن هو التعريف بأسبابه، وبيان أنها ليست أسباب في الحقيقة جديرة بان تسبب الحزن، وبالتالي لا ينبغي على الإنسان ان يحزن بسببها .
·        يعتمد الكندي في علاج الحزن على تعريف وتوعية الناس وتعليمهم بحقيقة أسباب الحزن وتزويدهم بالمعرفة التي تساعدهم في التخلص منه او على الأقل التخفيف من حدته.
·        ولهذه الاعتبارات السابقة يعتبر الكندي بحق رائدا للعلاج النفساني السلوكي المعرفي الحديث.

السعادة:
السعادة برأي الكندي لم تكن في الحصول على المحبوبات والمطلوبات الحسية الدنيوية الزائلة وإنما هي في الحصول على المحبوبات والمطلوبات العقلية وذلك فيما يلي:
-        البحث والتفكير والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء.
-        ليست اللذة الحقيقة في حصول الإنسان على اللذات الدنيوية الزائلة، وإنما هي اللذات الإلهية الروحية التي تحصل للإنسان إذا تطهر من دنس الشهوات والملذات الحسية واقترب من الله سبحانه وتعالى فأفاض عليه من نوره ورحمته فيشعر حينئذ بلذة تفوق كل لذة.


_______________________________________________________________
ملخص من المرجع المقرر للمساق:
 نجاتي، محمد عثمان، الدراسات النفسية عند علماء المسلمين، ط1، بيروت: دار الشروق 1993.


د. لؤي زعول نصوص نفسية (الفارابي)

جامعة الخليل
         د. لؤي زعول                                  نصوص نفسية عند علماء المسلمين
(دكتوراه بعلم النفس الاجتماعي والعملي)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملخص محاضرات رقم ( 3 )
الفارابي:                                                                                  
·        أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان المعروف بالفارابي، الملقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو.
·        ولد 259-339 ه/ 872-950م في بلدة سيج بولاية فاراب/ تركستان وتوفي في دمشق بعمر 80 عام.
·        اشتغل بالقضاء في بلده، لكن كان يميل الى دراسة الفلسفة وحقائق ما وراء الطبيعة.
·        ذهب الى بغداد لدراسة المنطق والنحو والفلسفة، وقرأ كتب أرسطو وأفلاطون منها كتاب (النفس) لأرسطو
·        عاش في فترة ضعف سلطة الخلافة العباسية وبداية تدخل النفوذ التركي وسلطتهم في ادارة شؤون البلاد.
·        هاجر الى دمشق بعد ان عمت الفوضى والاضطراب بغداد، ثم انتقل الى حلب وعمل في حراسة بستان الى ان تواصل مع أميرها سيف الدولة الحمداني، الذي ضمه الى حاشيته بعد ان عرف فضله.
·        عرف عنه الزهد والعزوف عن الحياة والتفرغ للعلم والتأمل والتفكير، وتصف بملابسه الصوفية البسيطة.
·        لم يتزوج ولم يقتني مالاً ولو أراد لأعطاه الأمير الحمداني.
·        اشتهر بمعرفته لكثير من اللغات، وكان ذكياً ونشيطاً.
·        أتقن الكثير من العلوم منها( الفلسفة، الموسيقى، الرياضيات، الطب، الفقه والعلوم العسكرية).
·        اخترع آله موسيقية تشبه القانون وألف كتاباً بالموسيقى، يعتبر من أهم الكتب في الموسيقى الشرقية.
·        اعتبره ابن خلدون من (أشهر الفلاسفة المسلمين الكبار)، ولقبه المؤرخ القفطي (بفيلسوف المسلمين).
·        اعتبر من المفسرين والملخصين لكتب أرسطو خاصة كتب المنطق وعليه لقب أيضا (بالمنطقي).
·        كان يميل الى التنظيم العقلي ويسعى دائماً للتنسيق والتوحيد، وقد اتفق مع الكندي في التوفيق بين أراء أرسطو وأفلاطون وبين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي.
·        اعتبره د. إبراهيم مدكور 1968 بكتابه ( في الفلسفة الإسلامية) انه أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل، ووضع أصولها ومبادئها، مع عدم إغفال دور الكندي بذلك.

مؤلفاته:                                                                                     
·        الف الفارابي في جميع العلوم في عصره وكتب كتباً مطولة لم ينشر معظمها، ولم تلق انتشار مثل كتب ابن سينا الذي تأثر بالفارابي كثيرا، كما تعمق  بنفس الإنسانية.
·        وقد ذكر القفطي انه كتب 17 شرحا و60 كتاباً و25 رسالة، لم يصلنا منها الا 40 ومازال كثير منها في مكتبات العالم.
·        معظم مؤلفاته في المنطق والفلسفة وقد قدم شرحا لكتب أرسطو وأفلاطون.
·        انتقده ابن الطفيل وابن رشد للتناقض في أرائه التي وقع فيها نتيجة وقوعه في أخطاء ترجمة الكتب من اليونانية الى العربية التي ضللت كل من الكندي والفارابي والتي أدت الى تشويه أراء أفلاطون.
من اهم كتبه ورسائله التي لها علاقة بالنفس:
(كتاب أراء اهل المدينة الفاضلة/ كتاب تحصيل السعادة/ كتاب السياسات المدنية/ كتاب المنطق الفارابي/ كتاب تحصيل السعادة/ رسالة في العقل/ كتاب العقل والمعقول/ رسالة النفس والعالم/ رسالة في العقل/ رسالة فصوص الحكم).
تعريف النفس وماهيتها:                                                                     
·        اتفق الفارابي مع الكندي وأرسطو في تعريف النفس وهي: ( كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة) أي انها صورة للبدن حسب أرسطو وتتكون من (مادة) صورة، والمقصود بان النفس كمال أول للبدن هو: ان بها يكمل الجنس فيصبح نوعاً قائما بالفعل وهو الجسم الطبيعي وليس جسم اصطناعي، والمقصود بالآلي: انه يقوم بوظائفه بواسطة آلات وهي أعضاؤه المختلفة، اما معنى ذي حياة بالقوة ان فيه استعداد للحياة وتهيؤاً لقبول النفس.
·        وقد اتفق أيضا مع أفلاطون وفق مبدأ العقيدة الإسلامية، بحيث ذهب الى ان النفس الإنسانية جوهر روحاني قائم بذاته، والإنسان مكون من عنصرين هما: روحاني(ألاهي) وبدن (مادي).

·        ويقول الفارابي في رسالة "فصوص الحكم" عن الإنسان ( أنت مركب من جوهرين احدهما مشكل مصور مكيف متحرك وساكن متجسد منقسم، والثاني مباين للأول في الصفات غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل، ويعرض عنه الوهم. فقد جميعت من عالم الخلق ومن عالم الأمر، لان روحك من أمر ربك، وبدنك من خلق ربك).
·        حاول كل من الفارابي وابن سينا التوفيق بين رأي أرسطو وأفلاطون لمفهوم النفس بقولهم: (ان النفس جوهر وصورة، فهي جوهر في ذاتها، وهي صورة من حيث علاقتها بالبدن).
قوى النفس:                                                                                  
نجد في أقوال الفارابي عن قوة النفس بعض الاختلافات في كتبه ورسائله المختلفة، ورغم ذلك يمكننا إجمال تصنيفه للنفس بالتالي:
أولاً: النفس النباتية وهي موجدة في النبات و الحيوان و الإنسان تنقسم:
1-  القوة الغاذية: وهي التي تقوم بوظيفة التغذية، بحيث تحيل الغذاء الى مشاكلة الجسم الذي هي فيه، فتلصقه به بدل ما يتحلل منه، ولها قوتان: الأولى بالفم والثانية أعلى في القلب.
2-  القوة المربية: وهي المنمية التي تقوم بوظيفة النمو حتى يبلغ الجسم كامله في النشؤ.
3-  القوة المولدة: وهي المسؤولة عن التوليد للحفاظ على بقاء النوع.
ثانياً: النفس الحيوانية تشمل:
1- القوة المدركة: وهي قبول المدرك لصورة المدرك فالقوة الحاسة مثلاً تقبل صورة المحسوس الخاص بها وتنقسم:
     أ‌-     قوة مدركة من الخارج (حواس خارجية): وتشمل الحواس الخمس، (شرح)     
(السمع: يحدث نتيجة تموج الهواء الواصل الى الإذن من جسمين متصاكين، والبصر: يدرك الأشياء التي تحاذيه، فإذا زال الإدراك تبقى الصورة بالذكرى، اما الذوق واللمس والشم: فهي قوى في أعضاء حسية تحس ما يحدث فيها نتيجة لاستجابة مثير).
ب‌- قوة مدركة من الباطن ( حواس باطنية):
1- الحس المشترك (الملك):
وهي التي تجتمع عنده الإخبار من مختلف الحواس، ويتناقض الفارابي شرحه لها، باعتبار ان مركزها في القلب، كما ورد باتفاقه مع أرسطو في كتابه (أراء أهل المدينة الفاضلة)، في حين يعتبرها في رسالة (فصوص الحكم) ان مركزها يقع في التجويف المقدم من الدماغ، ليتفق بذلك مع الطبيب اليوناني جالينوس.
2- القوة المصورة:
وهي الخزانة التي تجمع فيها صور المحسوسات بعد غيابها عن الحواس الخارجية، ومركزها في التجويف المقدم من الدماغ، كما ورد في رسالة (فصوص الحكم)، في حين لم يذكر القوة المصورة في كتاب (أراء أهل المدينة الفاضلة) والتي نسب فيها حفظ صور المحسوسات الى القوة المتخيلة ومركزها القلب، وبهذا يتفق مع أراء أرسطو، ليظهر التناقض في مقولاته من جديد. 
3-  القوة المتخيلة:
وهي التي تقوم بجمع او فصل المحسوسات، كما أنها تقوم باسترجاع ما مضى من خبرة او تتوقع ما سيحدث بالمستقبل، وقد أضاف الفارابي في كتاب (أراء أهل المدينة الفاضلة) للمخيلة وظيفة حفظ المحسوسات بعد غيبها عن الحواس، وان مركزها هو القلب، لكنه في رسالة (فصوص الحكم) يجعل القوة المصورة مستقلة بذاتها، تقوم بوظيفة حفظ صور المحسوسات بعد غيابها عن الحواس، واعتبر الفارابي ان القوة المتخيلة اذا استخدمها الوهم سميت متخيلة واذا استخدمها العقل سميت مفكرة.
4- الوهم:
وهي القوة التي تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الخارجية، وتأتي عن طريق حاسة باطنة وتسمى (القوة الوهمية).
5- الذاكرة او الحافظة:
وهي التي تحفظ المعاني التي يدركها الوهم وتنقسم الى ( اذن وبصر) تحفظ صور المحسوسات بعد غيبتها.

2- القوة المحركة:
هي القوة التي تنبعث من العضلات والأعصاب للقيام بحركة معينة لتحقيق ما يريد الحيوان القيام به، وهي موجودة في مختلف القوة الحاسة والمتخيلة والناطقة، ويعتبر الفارابي ان مركزها القلب، وتنقسم قوة الحركة النزوعية الى:
أ‌-     قوة شهوانية: تنزع  الى الحصول على ما يشتاق اليه الحيوان من ضروريات.
ب‌-قوة غضبية: وتنزع الى تجنب ما هو مكروه ومضر.
كما وتظهر ايضا قوة الارادة مقابل النزوعية التي اختص بها الإنسان عن غيره عبر ما اسماه الفارابي (بالقوة الفكرية) التي تفتح للإنسان قدرة الاختيار والتفكر وتميزه عن غيره.

ثالثا: النفس الناطقة (العقل او القوة الناطقة):
وهي التي تميز بها الإنسان الجميل عن القبيح، وقد فرق الفارابي بين نوعين في القوة الناطقة:
1-   العقل العملي: وهو الذي يستنبط به الإنسان ما يجب فعله من الإعمال الإنسانية المهنية والاقتصادية و وجدات هذه القوة لتخدم القوة النظرية، ومركزها القلب.
2-   العقل النظري: هو الذي يدرك المعقولات الكلية المجردة، وهو الذي يتم به جوهر النفس، ولا يخدم شيئاً أخر، ولكي ينعم بالسعادة عليه بالابتعاد عن القوة الحيوانية والتوجه نحو عالم الأمر للحصول على السعادة، والعقل النظري يتميز بالمراتب.
مراتب العقل الإنساني(النظري) حسب الفارابي:
1-  العقل الهيولاني: هو قوة من قوى النفس، ويصبح عقلاً بالفعل اذا حصلت فيه المعقولات، ولا يصبح عقلاً من نفسه، بل يحتاج الى شي أخر ينقله من القول الى الفعل مثل ضوء الشمس للبصر.
2- العقل بالفعل او العقل بالملكية: عندما يؤثر العقل الفاعل في العقل الهيولاني تصبح المحسوسات في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة، ويحدث ذلك عبر تسليط العقل الفاعل على صور المحفوظات في المتخيلة فيجردها من لواحق المادة ويرسلاها الى الهيولاني المستعد لقبولها، ويسمي الفارابي المعقولات المستمدة من المحسوسات المحفوظة في القوة المتخيلة بالمعقولات الأولى وتصنف لثلاث:
أ‌-     صنف مبادئ الهندسة العلمية وهي ان الكل أعظم من الجزء.
ب‌- صنف المبادئ الأولية للأخلاق المعروفة بالجميل والقبيح من السلوك.
ت‌-صنف المبادئ التي يستعين بها الإنسان في معرفة أصول الموجودات الخارجة عن نطاق فعل الإنسان.
3-  العقل المستفاد: وهو الذي يخلد بعد فناء البدن، ويصنف انه أعلى مراتب العقل الإنساني، بحيث يصبح قادراً على إدراك المعقولات المجردة من المادة، وبالتالي هو جزء من النفس التي لا تتلف بتلف المادة (البدن). أي هو " الذي أصبح بالفعل يدرك المعقولات كلها، ويكتسبها في نفسه من حيث صورها المجردة للمحسوسات لا مادياتها".
تلخيص القوة النفسانية عند الفارابي بالشكل التالي:
وحدة النفس الإنسانية:                                                                          
رغم ان الفارابي قسم النفس الإنسانية الى قوة مختلفة، الا ان هذه القوة ليست مستقلة عن بعضها البعض، بل انها متفاعلة ومتشابكة لتشكل النفس الإنسانية الواحدة، ويرتبها بشكل تدرجي بحيث تخدم كل قوة ما فوقها (أي الناطقة رئيسة للمتخيلة والمتخيلة رئيسة للحاسة والحاسة رئيسة للقوة الغاذية والقوة الغاذية تخدم البدن.
نظرية المعرفة:                                                                                
لم يضع نظرية خاصة ومستقلة في المعرفة الإنسانية كما فعل في بعض نظرياته التي تخص السياسة والتصوف، إلا أن أفكاره في نظرية المعرفة جاءت منثورة التوزيع بين طيات مؤلفاته، وذلك من خلال معالجاته وتشخيصاته إلى النفس وقواها من ناحية، وإلى العلوم العقلية والإلهية من ناحية أخرى، وهنا نتعقب أقوال الفارابي المتفرقة في هذا المضمار محاولين بقدر المستطاع تبيان عناصر هذه النظرية والتي ترتكز على أعمدة ثلاث هي: حسية وعقلية وإشراقية. ولقد جعلها وفق درجات متفاوتة ومختلفة بحسب قدرات البشر عند قربهم أو بُعدهم من العقل الفعال والاستغراق فيه. فهناك الناس العاديين ثم الحكماء والعلماء ثم أعلاهم شأناً الأنبياء.
1- المعرفة الحسية:
ينص الفارابي في: "كتاب الجمع بين رأي الحكيمين" على إن المعرفة التي تحصل عليها النفس البشرية تكون عن طريق الحس. فالحواس هي إدراك الجزئيات، ومنها تحصل الكليات التي هي التجارب على الحقيقة. وكلما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلاً.
بيد أن المعرفة حسب رأي الفارابي لا تحصل هكذا بالإنسان من خلال إدراك مباشر للحس بالمحسوسات، وإنما هناك قوى نفسية متعددة تتدخل بغية إتمامها وإكمالها، ولكن هذه القوى رغم تعددها إلا أنها تتفاوت في وظيفتها بحسب الكائن، فإن إدراك الجزئيات بصورها المادية تكون مشتركة بين الإنسان والحيوان، غير إن الإنسان يمتاز فيها بالنزوع نحو التفكير، ولهذه القوى جانبين أثنين: ظاهري وباطني، الأول يختص بالحواس الخمسة، والثاني يخص الحس المشترك كالخيال والوهم والذاكرة.

2- المعرفة العقلية:
تخص الإنسان وحده ولا أحد يملكها سواه وترتكز على القوة الناطقة، حيث يدرك بالعقل التجريدات الخالصة أو المعاني الكلية مثل: الله، الملائكة، الروح، الرياضيات، الهندسة وغيرها. ولهذا العقل ثلاث درجات وضحها الفارابي في كتابه: "السياسة المدنية" وهي: (العقل الهيولاني، العقل بالفعل والعقل المستفاد) وقد تم شرحها سابقا.

3- المعرفة الإشراقية:
عندما يصبح عقل الإنسان عقلاً مستفاداً، ولا يعود بينه وبين العقل الفعَال مسافة تفصل بينهما، فإن الحقائق تتجلى من العقل الفعَال كونه واهب الصور وتفيض منه كإشراقات تنزل على من أستطاع أن يتحرر من قيود المادة، وإذا حصل ذلك لإنسان ما كان الذي يوحى إليه بواسطة العقل الفعَال هو الله تعالى. لأن الله الذي يفيض منه إلى العقل الفعَال، فإن الأخير يعود ويفيضه إلى العقل المنفعل لهذا الإنسان. وبالتالي يصبح هذا الإنسان فيلسوفاً.

ما يتعلق بالنظرية المعرفية عند الفارابي:
إذا كانت نظرية المعرفة عند الفارابي موزعة ومتداخلة في بعض نظرياته عن: النفس، الفيض، النبوة، التصوف، فإنه من المفيد هنا أن نتناول الجوانب التي تتعلق صلتها بتلك النظريات، ففي كتاب "السياسة المدنية" مثلاً إذا أخذنا المعرفة الحسية فإن صلتها تكون في قوى النفس وفق ثلاثة أنواع هي: نباتية وحيوانية وإنسانية. الأولى لها قوى ثلاثة هي: غاذية ومنمًية ومولدًة. أما الثانية فتنقسم إلى محركة ومدركة، لكل منها ضربين أثنين: فالمحركة (أو النزوعية) إما أن تكون شهوانية أو غضبية. بينما المدركة إما أن تكون بالحواس الخمس الظاهرة: البصر، السمع، اللمس، الشم، الذوق، أو الباطنة وهي: الحس المشترك، المصورَة، الواهمة، الحافظة، المتخيلة، في حين تتعلق الثالثة بالمعرفة العقلية، وهي أن القوى الإنسانية إنما ترتكز على القوة الناطقة.



السعادة:                                                                                         
وهي بلوغ الإنسان استكماله الأخير، أي بلوغ مرتبة العقل المستفاد الذي يحقق للإنسان السعادة نتيجة فيض جميع المعقولات عليه، كما واعتبر ان بلوغ السعادة يتم عبر الأفعال الإرادية، بعضها أفعال فكرية وأخرى بدنية تساهم في انجاز الأفعال الايجابية التي تعزز السعادة، على عكس تلك الأفعال التي تعيق السعادة وتكمن في أفعال القبح والشر.
ويعتبر الفارابي ان فعل التعقل هو الذي يتحقق به أعظم سعادة للإنسان الناتجة عن أفعال الفضائل الإرادية، كما استنتج الفارابي ان هناك علاقة وثيقة بين الأخلاق والمعرفة العقلية، فالأفعال الإرادية الجميلة تدل على الأخلاق الجميلة وهو الأمر الضروري في صفاء النفس الإنسانية.
ويقول الفارابي أيضا ان العلم طريق للسعادة، وعليه اعتمد مذهب التصوف العلمي النظري المخالف لفهم التصوف المعروف في التقشف والحرمان من اللذات البدنية، التي هي السبيل الى السعادة حسب معتقدهم، وقد كان لأفكاره عن السعادة أهمية كبيرة عند فلاسفة القرون الوسطى وترجم العديد من كتبه الى ألاتينية في تلك الفترة .

المنامات وأسبابها:                                                                          
ان القوة المتخيلة متوسطة بين الحاسة والناطقة، وتقوم بخدمة كل شي، كما انها تقوم بخدمة القوة النزوعية، وعند توقف نشاط هذه القوى الحاسة والناطقة اثناء النوم وتتخلى المتخيلة عن خدمتهما، فإنها تتجه الى رسوم المحسوسات المحفوظة لديها وتقوم بفعلين هما التركيب والفصل، بحيث تركب بعض الأجزاء وتفصل بعضها ويرافقها في ذلك المحاكاة التي تقوم عن طريق رسوم المحسوسات المحفوظة لديها بتشكيل الحلم اثناء النوم.

اي تعمل المخيلة في فصل بعض الصور المحفوظة عندها، أو تقوم بتركيب صوراً إلى بعضها، ولذلك يكون في المنام أحلام، لأن الإحساس يحاكي قوة الخيال، فإذا أحس جسم النائم بالرطوبة مثلاً، فإن الحلم يكون عن المياه أو السباحة أو وفق ما يتعلق بذلك الشيء، وكلما كانت هذه العوارض في المخيلة ذات قوة وسيطرة على الواقع فإن الأشياء المتخيلة تكون أكثر واقعية، وكذلك القول عن الوهم الذي يدرك فيه الكائن الحي ما لا يُحسَ، كما في إدراك النعجة مثلاً، حيث تحس إن الذئب عدوها فتهرب منه من غير أن يكون لها تجربة أولية تعي فيه هذا الخطر، ولكنها تُحسَ ما لا يُحسَ بمعناه. أما الذاكرة فهي خازنة الوهم وحافظة صور الأشياء.
وتجدر الإشارة أيضا الى ان الفارابي قد قال بوظيفة الأحلام الهامة في التنفيس عن الدوافع والرغبات وهي الفكرة التي اهتم بها سيجموند فرويد في التحليل النفسي للأحلام كما تأثر ابن سينا في أرائه في تفسير الأحلام.

الوحي:                                                                                       
هو تقبل المتخيلة من العقل الفعال أشياء لها وجود بالفعل عبر محاكاتها بما يتناسب مع محسوساتها وهي أعلى مراتب القوة المتخيلة ولا يصلها إلا الأنبياء، وقد وضح الفارابي بين الهوس والوحي واعتبر ان الهوس هو تخيل أمور ليس لها وجود بالفعل، ليتفق في ذلك مع علماء النفس المحدثين، كما اعتبر ان للناس فروق تميزهم عن بعضهم البعض وقدرات مختلفة وثقافات مختلفة يتم تخزين المحسوسات من خلالها عند كل فرد. 

______________________________________________________________
ملخص من المرجع المقرر للمساق:
 نجاتي، محمد عثمان، الدراسات النفسية عند علماء المسلمين، ط1، بيروت: دار الشروق 1993.